سورة القلم - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القلم)


        


{ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)} [القلم: 68/ 1- 16].
ن أو نون: حرف مقطّع في قول جمهور المفسّرين للتنبيه لخطورة وأهمية ما بعدها، وتنبيه المشركين وتحدّيهم بأن القرآن الذي أعجزكم مكوّن من حروف هجائية هي مادة تكوين لغتكم العربية، التي تنطقون بها، ثم مع هذا عجزتم عن الإتيان بمثله أو مثل سورة منه. ثم أقسم اللّه تعالى بالقلم وبما يكتب به، أي أقسم بالقلم أداة الكتابة وبالمكتوب به. لست يا محمد بسبب نعمة النّبوة بمجنون، كما يزعمون، وإنما أنت ذو مكانة عالية وعقل رشيد وفكر سديد.
أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: كانوا يقولون للنّبي صلّى اللّه عليه وسلّم: إنه مجنون، ثم شيطان، فنزلت: {ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)}.
وهو جواب القسم، أي إنك بسبب نعمة ربّك- وهي جملة اعتراضية- لست مجنونا. والجنون: ستر العقل، بمعنى أن كلامه خطأ ككلام المجنون، فنفى اللّه تعالى ذلك عنه.
ومطلع السورة حيث أقسم بالقلم، وأثره: إشادة بالكتابة التي هي قوام العلوم والمعارف وأمور الدنيا والآخرة، فإن القلم أخو اللسان، وطريق الفطنة، ونعمة عامّة من اللّه تعالى.
- وإن لك أيها النّبي لثوابا عظيما على ما تحمّلت من مهامّ النّبوة، وذلك الثواب غير مقطوع، وإنما هو مستمر.
وإنك لصاحب الخلق العظيم الذي أمرك اللّه به في القرآن، لما تحملت من قومك، ما لم يتحمله أمثالك. وجمّاع هذا الخلق يتمثل في قوله اللّه تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 7/ 199].
ثم هدّد اللّه المشركين وتوعّدهم بقوله: { فَسَتُبْصِرُ} أي ستعلم أيها النّبي، وسيعلم يوم القيامة المشركون الذين كذّبوك في الدنيا، من المفتون المجنون الضّال، أي في أي فريق منّا أو منكم النوع المفتون؟ ثم أكّد اللّه تعالى وعيده ووعده بقوله: { إِنَّ رَبَّكَ} أي إن اللّه يعلم من هو في الحقيقة الضّال، أنت أم من اتّهمك بالضلال، ومن هو المهتدي من الفريقين، منكم ومنّا؟! والمعنى: بل هم الضّالون، لمعارضتهم ما فيه نفعهم العاجل والآجل.
ثم أوضح اللّه تعالى ما عليه الكفار من الأخلاق الذميمة، مما يقتضي التشدّد معهم، فداوم أيها النّبي على مخالفة الكفار المكذّبين لرسالتك، وتشدد في ذلك.
لقد تمنّوا لو تلين لهم، فيلينون لك، بأن تركن إلى آلهتهم، ولا تهاجمها، فيقرّون بعبادة إلهك. ثم خصص اللّه تعالى الوليد بن المغيرة أو غيره بالتحذير من طاعته، لاتّصافه بالصفات المذمومة، والمشهور أنه الوليد، وقيل: إنه الأخنس بن شريق أو أبو جهل أو الأسود بن عبد يغوث. وظاهر اللفظة: عموم من بهذه الصفة، والمخاطبة بهذا المعنى مستمرة باقي الزمان، لا سيما لولاة الأمور. وهذه الصفات:
- إياك أيها النبي إطاعة كل شخص كثير الحلف بالباطل، حقير الرأي والفكر.
وهو أيضا عيّاب طعّان، يذكر الناس بالشرّ في وجوههم، ويمشي بالنميمة والسّعاية بالفساد بين الناس. روى الجماعة إلا ابن ماجه عن حذيفة: «لا يدخل الجنّة قتّات» أي نمام.
- وهو منّاع للخير، أي بخيل، يمنع الخير عن الناس من الإيمان والعمل الصالح.
ظالم متجاوز الحق وحدود اللّه من أمر ونهي، كثير الآثام والذنوب. كان للوليد بن المغيرة عشرة بنين، وكان يقول لهم ولأمثالهم: لئن تبع دين محمد منكم أحد، لا أنفعه بشيء أبدا، فمنعهم الإسلام وهو الخير الذي منعهم إياه.
- وهو عدا ما ذكر غليظ جاف الطبع، شديد الخلق، دعيّ في قريش، ملصق بالقوم، وليس هو منهم. قال قرة الهمداني: إنما ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة، وبواعث كفره وكبره:
- أيكفر بالله تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، لأن اللّه أنعم عليه بالأموال والبنين؟ حيث جعل جزاء النعم الكفر والجحود؟ فذلك لا ينفعه عند ربّه. وهذا تقريع وتوبيخ على مقابلة النعمة بالكفر بآيات اللّه والإعراض عنها.
- وإذا تليت عليه آيات القرآن، زعم أنها كذب من أكاذيب وقصص الماضين، وليس هو من عند اللّه تعالى. لكن عقابه في الدنيا أو الآخرة أننا سنجعل له على أنفه وسما بالسواد، وبالفعل فإنه قاتل يوم بدر، فخطم بالسيف في القتال.
وقوله: {أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14)} العامل في (أن) فعل مضمر، تقديره: كفر أو جحد.
قصة أصحاب الجنّة:
ينعم اللّه تعالى على بعض العباد بالثروة أو المال الوفير، ليعرف هل المنعم عليه شاكر لربّه في طاعة اللّه وشكر نعمة اللّه، فيزيده من النعمة، أو يكفر بها فيقطعها عنه. وهذا مثل عظيم لأهل مكة وعتاة الكفار وأصحاب الثراء، وهو مثل أصحاب الجنة ذات الثمار والحبوب، طلب منهم أن يشكروا نعمة اللّه، ويؤدّوا الفقراء حقوقهم، فجحدوا النعمة وحرموا المساكين حظّهم، فحرمهم اللّه الثمار كلها. روي أنّ واحدا من ثقيف، وكان مسلما، كان يملك ضيعة، فيها نخل وزرع بقرب صنعاء، وكان يجعل من ناتجها عند الحصاد نصيبا وافرا للفقراء، فلما مات، ورثها منه بنوه، ثم قالوا: عيالنا كثير، والمال قليل، ولا يمكننا أن نعطي المساكين، مثلما كان يفعل أبونا، فأحرق اللّه جنتهم، كما يبدو في هذه الآيات:


{إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)} [القلم: 68/ 17- 33].
إنا اختبرنا أهل مكة بالجوع والقحط، كما اختبرنا أصحاب البستان المعروف.
وخبرهم عند قريش، حين حلفوا أنهم سيقطعون ثمر البستان عند الصباح، حتى لا يعلم بهم الفقراء، فيأخذون ما كانوا يأخذونه، طمعا في اقتناء كامل الغلّة والزرع.
والقصد من الاختبار: معرفة حالهم، أيشكرون نعم اللّه عليهم، فيؤمنوا برسول اللّه المرسل إليهم بشيرا ونذيرا، أم يكذّبونه ويجحدون برسالته، وينكرون حقّ اللّه عليهم؟ ولا يقولون: إن شاء اللّه، أو لا يستثنون نصيب المساكين.
فطاف على تلك الجنة (البستان) من عند اللّه نار أحرقتها، أي أصابتها آفة سماوية، حتى صارت سوداء كالليل المظلم. والطائف: الأمر الذي يأتي بالليل.
والصّريم: الرّماد الأسود، بلغة جذيمة.
ولكنهم لم يقدّروا العواقب، وصمموا على ما أرادوا، فنادى بعضهم بعضا وقت الصباح، ليذهبوا إلى الجذاذ، أي القطع: أن اخرجوا مبكّرين في الصباح إلى الثمار والزروع، إن كنتم قاصدين للصّرام أي القطع.
- فبادروا مسرعين إلى حقلهم، وهم يتناجون سرّا ويقول بعضهم لبعض: لا تمكّنوا اليوم فقيرا واحدا يدخل عليكم. و(يتخافتون) يتكلمون كلاما خفيّا.
- وذهبوا في الغداة مبكّرين، زاعمين أنهم قادرون على الصّرام (القطع) ومنع المساكين وحرمانهم. وقوله: {عَلى حَرْدٍ} أي ظنّوا أنهم قادرون على منع المساكين.
- فلما وصلوا إلى جنّتهم وشاهدوها وهي على هذه الحالة المؤلمة من الاحتراق والسواد، قال بعضهم لبعض: قد أخطأنا الطريق- طريق بستاننا، وليس هذا.
- ثم لما تأمّلوا وعلموا أنها جنّتهم (بستانهم) وأن اللّه تعالى عاقبهم بإبادة ما فيها، قالوا: بل نحن في الحقيقة محرومون من ثمر جنّتنا، لعزمنا على منع المساكين حقوقهم.
- قال أعقلهم وأحسنهم رأيا: هل تنزهون اللّه عن كل عيب أو نقص، وتذكرونه وتشكرونه على ما أنعم به عليكم، وتستغفرون اللّه من فعلكم، وتتوبون إليه من هذه النية التي عزمتم عليها؟
فاعترفوا بذنبهم، وقالوا: تنزيها لله عن أن يكون ظالما فيما صنع ببستاننا، فإنا كنا ظالمين أنفسنا في حرماننا المساكين حقوقهم. ولكنهم أتوا بالطاعة حيث لا تنفع.
ثم لام بعضهم بعضا على ما كانوا أصرّوا عليه من منع المساكين من حقّ الجذاذ، أي القطاف، ولم يجدوا أمامهم إلا الاعتراف بالخطإ والذنب. قالوا: يا هلاكنا أقبل، فإنا كنّا معتدين متجاوزين الحدّ، حتى أصابنا ما أصابنا.
ثم دعوا ربّهم أن يعوّضهم خيرا عما حلّ بهم قائلين: لعل اللّه ربّنا أن يعطينا بدلا خيرا من جنّتنا، فإنّا متضرّعون متّجهون إليه، راجون العفو والخير منه.
ثم هناك ابتداء مخاطبة للنّبي صلّى اللّه عليه وسلّم في أمر قريش في قوله تعالى: {كَذلِكَ الْعَذابُ} أي مثل ذلك العذاب الذي نزل بالجنّة: العذاب الذي ينزل بقريش بغتة، وهو عذاب كل من خالف أمر اللّه، وعذاب الآخرة أشد وأعظم من عذاب الدنيا، فلو كان المشركون يعلمون ذلك، لعادوا إلى رشدهم، وبادروا إلى الإيمان برسالة النّبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم. وهذا دليل على غفلتهم وجهلهم. قال كثير من المفسّرين: العذاب النازل بقريش المماثل لأمر الجنة: هو الجدب الذي أصابهم سبع سنين، حتى رأوا الدخان، وأكلوا الجراد.
انتفاء المساواة بين الطائعين والعصاة:
حذر القرآن الكريم الكافرين من عذاب الدنيا والآخرة، ووعد اللّه المتقين بجنات النعيم، والجزاء حق وعدل للفريقين، ولا يعقل بل ولا تقرّ العدالة التساوي بين طائع وعاص، ومؤمن ومجرم، وكيف يحكم عاقل بالمساواة بينهما، من غير منطق، ولا كتاب إلهي، ولا وعد من اللّه تعالى، ولا من الشركاء المزعومين الذين لا وجود لهم، وهذا ما قررته الآيات الآتية:


{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43)} [القلم: 68/ 34- 43].
أخبر اللّه تعالى أن المتقين لهم عند ربّهم جنات النعيم، فروي أنه لما نزلت هذه الآية، قالت قريش: إن كان ثمّ جنات نعيم، فلنا فيها أكبر الحظ، فنزلت آية: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)}. وهذا على جهة الاطلاع والتوبيخ.
والمعنى: إن لكل من اتّقى اللّه وأطاعه، في الآخرة، جنات فيها النعيم الخالص الذي لا يزول ولا ينقضي. وحينما زعم المشركون المكّيون أن لهم الأفضلية في الآخرة، لأفضليتهم في الثروة والنفوذ، أو على الأقل المساواة مع المسلمين، أجابهم اللّه تعالى بقوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ} أي كيف يعقل أن نسوّي بين الفريقين في الجزاء، فنجعل من يلتزم الطاعة كمن هو فاجر مجرم لا يبالي بمعصيته؟ كلا، فلا مساواة بين المطيع والعاصي.
ثم نفى اللّه تعالى وجود أي دليل عقلي أو نقلي على هذا الزعم فيما يلي:
- كيف تظنون ذلك، وكيف تحكمون هذا الحكم الأعوج، كأن قانون الجزاء مفوض إليكم؟ إن أبسط مبادئ العقل وصحة الرأي يمنع مثل هذا الظن أو الحكم، وهذا نفي للدليل العقلي على المساواة.
أم (بل وألف الاستفهام) أي بل ألكم كتاب منزل من السماء تدرسونه وتحفظونه وتتداولونه، يتضمن حكما مؤكدا كما تدّعون؟ ومفاد الحكم التسوية بين المطيع والعاصي، وهل في ذلك الكتاب أن لكم في الآخرة ما تختارون وتشتهون؟ وهذا نفي الدليل النقلي.
- بل ألكم من اللّه عهد موثق، وأيمان مغلظة مؤكدة، قائمة إلى يوم القيامة، في أن اللّه تعالى يدخلكم الجنة، ويحقّق لكم رغائبكم كما تريدون وتشتهون؟ وأن لكم إنفاذ الحكم الذي تصدرونه؟ كأنه تعالى يقول: هل أقسمنا لكم قسما فهو عهد لكم بأن ننعّمكم يوم القيامة وما بعده؟
اطلب منهم يا محمد موبّخا ومقرّعا وقل لهم: من المتضمن المتكفل بهذا، أو أيهم كفيل لهم بذلك، بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين فيها؟!- بل ألهم شركاء لله بزعمهم كالأصنام والأنداد قادرون على أن يجعلوهم مثل المسلمين في الآخرة؟ فإن كان لهم شركاء، فليأتوا بهم لمناصرتهم، إن كانوا صادقين في دعواهم. وهذا نفي التقليد وإبطال اعتقاد المشركين.
ثم تحدّاهم اللّه بالإتيان بالشركاء يوم القيامة حيث يشتدّ الأمر، وذلك وقت أن يكشف عن الساق، أي يوم اشتداد الأمر، وعظم الخطب في القيامة، وحين يدعى هؤلاء المشركون وأنصارهم من الكفار والمنافقين، إلى السجود، توبيخا لهم على تركه في الدنيا، فلا يتمكنون من السجود، لأن ظهورهم تيبس، وتصبح شيئا واحدا، فلا تلين للسجود. قال مجاهد في قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ} هي أول ساعة من القيامة، وهي أفظعها.
وتكون أبصارهم خاشعة ذليلة منكسرة، تعمّهم الذّلة الشديدة، والحسرة والندامة، وقد كانوا في الدنيا مدعوين إلى الصلاة والسجود لله تعالى، فامتنعوا وتمرّدوا، وكانوا سالمين أصحاء، متمكنين من الفعل، ولا يوجد مانع يمنعهم من السجود. قال النخعي والشعبي: المراد بالسجود: الصلوات المفروضة. والواقع أنهم لا يدعون إلى السجود تعبّدا، وإنما توبيخا وتعنيفا على تركهم السجود في الدنيا. وبما أنهم تكبروا عن السجود في الدنيا، مع صحتهم وسلامتهم، عوقبوا بنقيض ما كانوا عليه، بعد قدرتهم عليه، ولا يستطيع أحد أن يسجد، لصيرورة ظهره كتلة واحدة أو طبقة واحدة. وقوله تعالى: {وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} يريد في دار الدنيا، وهم سالمون مما نال عظام صدورهم من الاتصال والعتوّ.
التخويف من قدرة اللّه تعالى:
تخويف للكافرين في القرآن بعد تخويف، لقد خوّفهم اللّه تعالى بأهوال القيامة وشدائدها، ثم خوّفهم وهدّدهم أيضا بما في قدرته من القهر، ففيه الكفاية بالجزاء لمن يكذب بالقرآن الكريم. ثم أمر اللّه تعالى نبيّه بالصبر، وترك الضجر في أمر التبليغ خلافا لما فعل يونس عليه السّلام. وليس للنّبي أن يأبه بجسد قومه له، بعد أن صبّره وقوى معنوياته، وأن الشرف العظيم له، حين جعل القرآن المنزل عليه عظة للجن والإنس جميعا. وهذا مفاد الآيات الآتية:

1 | 2